Friday, September 15, 2017

رحلة تتبع .. في الماضي

مُذْ قرأتُ أول لغز- وهو بائع البالونات- في سنٍّ صغير، بدأتُ بتدوين كل ما يُذكر في الألغاز من أسماء المحافظات المصرية، الجبال، الوديان، المدن، الطرق، الشوارع، حتى أرقام الباصات من منطقة إلى أخرى، وطرق التنقل المتعددة بين الضواحي في كتيبٍ صغير اعتبرته دليلاً خاصاً يُغنيني عن الإستعانة بخريطةٍ لجمهورية مصر العربية. ورغم البعد الزمني ما بيني وبين الكتابات، إلاَّ أن الكتيب امتلئ بالعديد من الأسماء والأماكن وخطوط المواصلات، حتى حُفرتْ الخريطة المتصوَّرة المتقطعة في رأسي من دون رؤيتها فعلياً. كنتُ عازماً على زيارة القاهرة في أقرب وقت كي تسنح لي فرصة تجسيد الفكرة الخيالية لتصبح واقعاً ملموساً ومرئياً. ولكن المدة طالت ما بين القراءة الأولى والزيارة الأولى!
لكنها أتتْ..
وكانت رحلة تاريخية بالنسبة لي.. ليس لمجرد كونها خروجاً من نطاق مدينتي أو حدود خارطتي، فلم تكن السفرة الأولى، ولكن لكونها رحلةٍ خاصةٍ إنتويت فيها أمراً إنْ قُدّرَ لي أن أفعله فإني فاعله... وهو مطابقة الخريطة العقلية بالخريطة الحقّة.. بمالمرور على أكبر قدرٍ ممكنٍ من الأماكن التي ذُكرتْ في الألغاز وخصوصاً تلك الخاصة بالمغامرين الخمسة!
فهل إستطعتُ لهذا سبيلاً؟!
أول ما نزلتُ مصراً، علمتُ أمراً أنه رغم أنني أطأ هذه الأرض في التسعينات إلاّ إنني أراها في أواخر الستينات وبداية السبيعنات.. كنتُ أراها بعين الألغاز التي أحفظها والروايات العديدة التي قرأتها.. لم أرى مصر المزدحمة بالسيارات والناس المتسارعة بأنفاسهم المتلاهثة.. بل كانت هادئة في ذهني.. هادئة جداً.. وتقريباً تكاد تخلو من العالم أجمعين!
لم أكن في حاجةٍ إلى دليلٍ سياحي، أو خارطة بالمعالم والشوارع، أو حتى سؤال مارٍ عن مكان. كل شيء تترجم فجأة أمام عيوني لدرجة أنني أحسستْ إنني وطأتُ أرض هذه البلد من قبل.. أنني أنتمي إليها.. أنني أعرفها معرفة الخطوط في كفّيَّ. ومنذ اللحظة الأولى بدأت المعادلات تتلاقى في رأسي.. فهذا هو ميدان "التحرير" الذي مرّ به أكثر من مرة "تختخ" المؤدي إلى ميدان "طلعت حرب" المؤدي إلى كافيه الأمريكين حيث إنتظر فيه تختخ والدته مرة. مررتُ بشارع "قصر النيل" وتذكرت نكتة "عاطف" في لغز عصابة التزييف وضحكت من قلبي.. ومنه تفرعتُ إلى شارع "عبد الخالق ثروت" إلى شارع "عرابي" لأرى نفسي تقترب من منطقة أحببتها منذ رأيتها وهي "العتبة". دار لغز الحقيبة السوداء في رأسي كغزلٍ ملوّن، أرخى بألوانه القديمة على المرئيات أمامي.. فشخصتُ تختخ يركب الترام من ميدان السيدة مروراً بشارع خيرت إلى شارع عبد العزيز وصولاً إلى العتبة... حتى النزول في شارع "كلوت بك"!! ولهذا الشارع تأثير بالغ فيَّ حتى أنني ألّفت فيه قصيدة سمّيتها "كلوت بك" لم يفهمها غيري وصديق أشترك معه في قراءة الألغاز!
ثم كانت بعدها لحظة إنطلاقي إلى مكان تختخ المفضل.. آلا وهو "جروبي".. ومن بين أفرع الكافيه العديدة إلاّ أنني أحسست أنه الفرع الذي في شارع عبد الخالق ثروت.. درتُ بين شوارع أقرأ أسماؤها على اللافتات الزرقاء وكأني اقرأ عناوين مدينتي.. ووقفت أمام "جروبي" طويلاً.. حثّني إبن عمي – الذي رافقني الرحلة الإستكشافية- للدخول. اخترتُ مكاناً أحسست أن تختخ كان سيختاره.. والطلب كما تعرفون كان بضع قطع من الجاتوه وشاي!!!! أنا لستُ من متلذلذي شرب الشاي وخصوصاً مع الحلويات، فهاذين الأمرين أشعر بإختلافهما.. ولكن قُضي الأمر، فكان. 3 ساعات من الصمت المطبق في "جروبي"، كلٍّ منّا سارحٌ في خياله الخاص.. أمامنا الشاي والجاتوهات.. 3 ساعات من الرحيل عبر تلافيف المخ إلى أوراق صفراء اللون لكن حبرها أسودٌ غامق.
واستمرت الرحلة – وأكثرها كان على الأقدام – لمعالم عدّة من المتحف إلى حديقة الحيوان إلى حديقة الأسماك إلى الكورنيش المبهر.. وتوالت الصور: فهنا الفندق الذي التقوا فيه مع المفتش سامي في لغز وادي الذئاب وهنا دارت سيارة العميل السري وتختخ فوقها وهناك جلس الشاويش فرقع تحت شجرة في لغز الطفل المخطوف.. هذا باب اللوق حيث الطريق المؤدي إلى مكتب المفتش سامي.. وهنا باب الشعرية و سيدنا الحسين حيث بحث تختخ عن الغني الفقير الدهل في لغز الحقيبة الدبلوماسية.. وهذا هو مفرق الغورية والحلمية حيث قصداه الأخيرين للهرب من من كان يلاحقهما.. وهو نفسه المؤدي إلى المكان الذي كان يتمركز فيه الجاسوس مايزر كماسح أحذية...والكثير من المناطق المميزة... والغريبة.. كحي الزبالين – الذي حتى سائق التاكسي لم يستدل عليه رغم اعترافه أنه مولود في مكان قريب منه فإتبعَ توجيهاتي له!!
ثم كان الذهاب إلى المكان الأسمى والأجمل.. المعادي!
هي لحظات لا تُترجم على الورق.. ولا تُكتب.. بل تُحسّ. لحظات تختصر أزمنة ومسافات.. وتجرّد الناس من هويتها الزمنية لتتقهقر إلى الوراء سنوات وسنوات. كورنيش المعادي.. معادي الفيلات.. القصور بأشجارها.. الحي الهادئ.. حتى بوّابين الفيلات كان لهم تأثير في وجودهم.. فأي منهم كان بواب قصر الصبار؟ وأي منهم ما زال يعيش حارساً للقصر الأخضر؟ وأين قصر ملك الشطرنج؟ والمنزل رقم 98؟ أين قصر سامح في لغز الزائر الغامض الذي يملك حديقة كغابة؟ وقصر وحيد الذي حديقته هي الأكبر حسب ظن تختخ؟ أين البيت الذي دارت فيه أحداث لغز الرجل الذي طار بدرجاته العالية؟ وهل هناك وجود فعلي لشارع الأزهار؟ هل البيت الخفي ما زال مختفٍ؟ ....
وعشتُ ساعات لا تصدّق في الحديقة اليابانية في حلوان.. أين جلس المغامرون الخمسة؟ هنا جنب القرود الثلاثة التي هي أول درس في الفلسفة أم هناك تحت خميلة حمراء؟ وهل كان الأستاذ مراد واقفاً أيضاً هنا حينما ترك منديله عن قصد في لغز ملك الشطرنج؟
ومن القاهرة إلى رمسيس.. لأخذ القطار وخوض رحلة التذكر للغز المتحف ولغز الهارب الصغير.. مروراً بكل المحطات: بنها حيث إرتحل تختخ في أعقاب الهارب فريد.. ثم طنطا .. ودمنهور.. حتى الإسكندرية.. محطة الرمل.. حيث ترجّل منها تختخ مرات عدة ولكن لا يمكن أن يكون أهمّها سوى قدومه للبحث عن خيط ما يربط به سر إختفاء لوزة في لغز عباس الأقرع.. فهل أصل لغيط العنب مثلاً؟ الإسكندرية حيث ذكريات لغز المدينة الغارقة والبحث عن الآثار القديمة الغارقة تحت مياه البحر الأبيض المتوسط وبورتللي الفار من العدالة.. ولغز الوثائق السرية الذي شاءت الأقدار أن تسوق طريقه إلى طريق تختخ حيث كان متواجداً مع أهله للتصييف.. وعودة إلى القاهرة مرة إلى أخرى كإنطلاقة إلى بني سويف ثم المنية.. حيث دارت عصابة التزييف المشهورة في الثلاثية الرائعة.. طرقات القطار على الأرض كان لها صدىً في رأسي يحفر ويحفر ثنايا ذاكرتي ويستخرج منها الصور والمكنونات المتراصة عبر سنين.
ثم جاءت الرحلة الخيالية.. من أسوان.. كوم امبو.. إدفو.. فمررت بلغز الفيلم الملون مروراً مع تمعن.. توقعت سماع إسمي عند وصولي محطة أسوان.. لا بدّ أن يكون هذا هو صوت مسعود عبد الرحيم صديق والد تختخ مجلالاً ينادي الأستاذ توفيق خليل.. وأين بوسن؟ هل ألتقيه في "جزيرة النباتات"؟ كانت الجزيرة رائعة.. وصلنا إليها عبر قارب.. غابة تحفل بشتى الأشجار المنسّقة تنسيقاً بديعاً..
وانطلقنا بعدها بحراً عبر النيل الهادىء الغامض إلى الأقصر.. وبدأت مجدداً تتباعات الصور والكلمات تتكوّن لتخلق سيناريوهات وأحداث وتوقعات.. لغز الأخرس.. الولد الصغير الذي كان يهتاج كلما رأى صورة الأقصر.. بيت خال تختخ.. الأقصر ووادي الملوك ووادي الملكات ومعبد حتشبسوت.. حيث الكرنك.. وألغاز تتراءى لي وكأنها حيّة!!
بالتأكيد هناك الكثير من الذكريات التي لم أذكرها.. والعديد من الأماكن التي زارها المغامرون الخمسة ولم أستطع زيارتها كالفيوم مثلاً.. ولكن للأمل بقية!


عامود أساس

لقد أصبح الأمرُ مكرراً بشكلٍ غريب.. لغزٌ قديمٌ جديدٌ معاد.. لا أدري كنه أمر حبّ الإبتداء به.. فهل صعبةٌ هي البدايات؟!
لغز الكوخ المحترق تحوّل هنا إلى لغز البيت المحترق بقلم فوزي شاهين... فكم نسخةٌ على القارئ أن يقرأ من هذا العدد؟!
بدايةً، التغييرات كثيرة، من أسماء المغامرين إلى إسم فرقتهم إلى بعض تفاصيل العدد نفسه.. مختلفة عن الأصلي وعن التقليد وعن المترجم.. وهناك زيادات رأيتُ فيها إحساس الكاتب بسدّ ثغراتٍ ربما وجدها في ما نقل عنه.. وصلات وتفسيرات بين الخطوة والأخرى.
لا أعرف كم عدداً للسلسلة هذه.. فهذا هو العدد الأول والوحيد الذي قرأته.. تطور الأحداث متسلسل، والكتابة لا بأس بها، ولكنها أكدت لي بمهارة محمود سالم أكثر فأكثر حتى أنني أستطيع أن أشهد أن للكاتب سالم مهارة لم أجدها لآن عند أحد من ناحية مرونة الكلمة وصياغة الجملة وسياق الأحداث بنعومة تتحسها في أي عدد له... فلا يمكن أن تتنكر لكلمة أوردها أو تستغرب موقفاً كتبه أو تستهجن حواراً أدار دفتيه!


لغز محمد عبد الحميد الطرزي

يبقى اللغز الأكثر تعقيداً في عالم الألغاز هو هوية المؤلف محمد عبد الحميد الطرزي.. والذي فكر الجميع بما بينهم أنا أنه سوري الجنسية ليتضح هنا أنه كاتب مصري!!!
لا حصر لكتابات هذا الرجل ومؤلفاته.. كل يوم اكتشف سلسلة له.. لا أدري كيف تأتى لشخص ما هذه الطلاقة في الكتابة بعيداً عن حقيقة جودة أو رداءة ما كتب.. لكنه الكاتب الأكثر تأليفاً بلا منازع - برأيي الشخصي - والذي له كتابات في مختلف دور النشر وخصوصاً السورية واللبنانية!!
إنه المنافس الأول للكاتب محمود سالم ولكنه لسوء حظه لم يحظى بربع شهرة كاتبنا المفضل لأسباب كثيرة تترواح بين تشويه أبطالاً ألفهم محمود سالم وأجاد رسمهم وبين سوء معالجة القصص نفسها التي ألّفها هو.
لا أدري إن كانت هذه لعنة أصابت قلمه الجرّار الحبّار .. أم أنه فقط حظ سيء خانته معه الظروف والتوقيت والإختيار!
لا أنكر أن لمحمد عبد الحميد الطرزي قصص جيدة .. فاقت جودتها الكثير من ملايين القصص لغيره، كسلسلة الشياطين ال١٣ البديلة الصادرة عن دار رومية، أو أعداداً للمغامرين الخمسة المقلدين، ولكنها تبقى شذرات برّاقة من بركان أسود لم يرى النور كثيرا ومديدا ولم يترقى يوماً ليتصدر اختيارات واهواء القراء العرب!


مهارة رسم الغلاف

لا مناص من التأكيد بأن لكلٍّ منّا ذائقيته الخاصة في إختيار ما يعجبه وما لا يروق له، لكن تبقى هناك معاييرٌ فنيّة أقلُّ ما يقال عنها أنها ثابتة.
وكثيراً ما تتدخل ذكرياتنا في موضوع الإختيار، فيتداخل الحدث والمكان والزمان وحتى ذكريات الأشخاص مع إختياراتنا. فيكون "الشيء" نفسه عبّارة زمنية محببة للنفس، تثير الشجون، وتطلق الذكريات من معقلها الصدئ.
وإذا نحّينا جانب الذكرى، يبقى العمل الفني كعملٍ قائم بحدّ ذاته.. يوجب عليه تفعييل منطق المعايير والمقاييس الجمالية لإستبيان مدى جماليته. وفي هذا ليس تقليلاً لذوقنا، وإنما إعلاءً لجهد شخصي بُذل في يومٍ ما لإبراز الجمال على صفحة.
شخصيّاً.. حينما كنت أشتري أو أحصل على لغزٍ.. كنت أعايين الغلاف كجزءٍ لا يتجزأ من القصة.. وأول ما أفعله هو فتح اللغز لأرى الغلاف كاملاً.. من الأمام والخلف.. وبهذه الطريقة تستبين هل صورة الغلاف كاملة أم فقط تحتل الواجهة .. هل هي إبداعٌ فني أم فقط تمثل مشهد ما. بالنسبة لي، أكثر الألغاز جمالية هي التي تستكمل لوحة غلافها على الغلاف الخلفي لها.. ذلك شيءٌ يعطيك إحساس بأن الفنان قد بذل مجهوداً ما.. يوحي لك بأن حجم الغلاف الثابت لم يتح له المجال كي يفرغ كل إبداعه.. بأن اللوحة لن تكتمل دون إضافات معينة .. ولو كانت طفيفة!!
ألوان اللوحة نفسها تحمل أهمية بالغة.. فاللون كما الحرف، لغة معبّرة يستعملها الفنان كما الكاتب لإبداء رأيٍ وإلقاءِ موقف.
ثم هناك خطوط الرسمة.. أهي سريعة أم متأنية؟ إنطباعية أم واقعية؟ قادرة على المحاكاة والتأثير أم جامدة كآلة طبع؟
وبالطبع هناك أمور كنوعية الورق .. لامعة .. عادية .. مخملية كالقماش ..
وأخيراً وليس آخراً.. إختيار الفكرة.. هل تقع في صلب الموضوع؟ هل تلقي إشارة ما؟ هل تنوّه بالمضمون؟ أم هي خارجة عن النص؟ تعبّر فقط عن إيحاء لموقف ما أو ترتبط فقط بإسم اللغز.. هل تجسّد نقطة حاسمة في القصة بحيث إذا وصلت إليها في القراءة عدتَ سريعاُ لمراجعة صورة الغلاف؟ أم أنها قطعة فنية فقط؟ أم لا دخل لها في شيء؟!
لكننا أحياناً نرى أن الرسم جيد والفكرة سيئة .. أو العكس: فكرة جيدة ورسم غير جيد..
ولشرح فكرتي أكثر.. سأورد بعض الصور:
الصورة 1: (لغز الكوخ المحترق - الإنكليزي)
مع أنها لوحة جميلة جداً ومرسومة بطريقة جيدة جداً.. ولكن فكرتها بسيطة بعض الشيء.. فالعنوان عن كوخ محترق وفي الصورة كوخ محترق ويبدو الشاويش وكأنه يواجه صعوبات في فك طلاسم اللغز!
الصورة 2: (لغز الكوخ المحترق - الألماني)
صورة بسيطة في رسوماتها ولكنها تعبّر بقوّة عن مضمون اللغز وتلقي الضوء عن حدث ما قد يؤدي لكشف الطلاسم المحيطة بهذا الجو الغامض.
نأتي للصورة 3و4: برأيي هم من أجمل ما رُسم كاغلفة للألغاز.. فغلاف لغز شاطئ السموم يبدو وكلوحة على قماش.. الألوان المختارة ساعدت في إضفاء تأثيراً بالغاً لمشهد الغروب بحيث كانت دافئة وقليلة ومتناغمة.. المشهد نفسه يكشف سرّ سيكتشفه المغامرون لاحقاً عن كيفية وصول المخدرات إلى الشاطئ عبر البحر.. وغلاف لغز العملاق مثير للتساؤل والإستفهام.. أشخاص ووجوه تعبّر بحق عن المشهد الأول للمفتش وذكرياته عن شمروخ وكيف أن الماضي قد يعود يوماً ما.. الدخان المتصاعد أضفى مزيداً من الغموض.. وتختخ لا يبدو للقارئ في اللوحة إلاّ إذا فتح كامل اللغز ليراه في زيّه التنكري كماسح أحذية.. جو حماسي غامض يضفي الكثير من التساؤلات!


نكتة عاطف

من أهضم المشاهد بالنسبة لي .. أذكر أول مرة قرأتها إنبهرت.. وأعدت القراءة أكثر من عشر مرات!!
فكرة أن مصدر المال متحرك دوماً وهو من يد إلى يد.. وحين يصل ليدّك لا يهمّك كثيراً من أين أتت أو مع من كانت.. أكانت في جيب ثري صرفها ضمن أوراق أخرى بعد أن ربحها في صفقة عمل أم جيب فقير كانت كل ثروته واشترى بها ما يُغنيه عن بذل كرامته أمام العالم أم جيب موظف يقضي يومياً أكثر من عشر ساعات عمل كي يعيل نفسه وعائلته... أكانت وأكانت...
كثيراً ما سرحت في المال الذي أصرفه وأقبضه...
لكل ورقة تاريخ ورواية ورحلة سفر!!
كتابة رائعة .. لا أؤمن بأن الكاتب محمود سالم انتوى فيها الحس الفكاهي فقط .. لطالما كانت هناك أفكاراً أكبر وأعمق ممّا يبدو للمتصفّح!

مصدر الصورة: لغز عصابة التزييف - للمغامرون الخمسة - تأليف الكاتب محمود سالم


ّ~ عن الترجمة .. وأشياء أخرى ~


تعتبر الترجمة فنّاً عريقاً وذات تأثير بالغ في إيصال الكلمة مع روح الكاتب. ويحصل إن كانت الترجمة رديئة بأن يفقد الكتاب جزءاً هاماً من مضمونه. لكن من النادر جداً أن تكون الترجمة والتصرف في العمل أجمل بكثير من العمل الأصلي نفسه.

في الصورة نموذج بسيط عن ما أقصده. هو العدد الأول من سلاسل عدّة: لغز الكوخ المحترق.
من اليمين إلى اليسار: العدد الأصلي بقلم إينيد بلايتون (الكاتبة الإنكليزية الذائعة الصيت – كتبته حوالي عام 1943) – العدد نفسه مترجم للعربية من تراجم مكتبة جرير السعودية عام 2007 – العدد الأوّل من سلسلة المغامرون الخمسة من دار المعارف المصرية ضمن سلسلة قصص بوليسية للأولاد – بقلم الكاتب المصري محمود سالم – كتبه في أواخر الستينات تقريباً – العدد الأوّل من سلسلة المغامرون الخمسة "اللبنانيون" من دار بساط الريح اللبنانية لكاتب مجهول الهوية.

1- العدد الإنكليزي – إينيد بلايتون:
لاري ودايزي دايكن وبيب وبيتس هيلتون يتعرفان على فريدريك ألجرنون تروتوفيل وكلبه بستر ليكونان فرقة لحلّ لغز الكوخ المحترق.
الرواية أنيقة جداً .. نحن نتحدث عن أوائل الأربيعينات حيث حينها كانت اللغة الإنكليزية ما تزال راقية والعادات والتقاليد و"الأتيكيت" الذي بتنا نراه فقط في أفلام الأسود والأبيض موجود.
مع إن الكاتبة أقرّت منذ البداية أنها قد اخترعت المدينة التي يعيش فيها المغامرين إلاّ أنها سرحت كثيراً في وصف الطبيعة حولهما.
هناك إهتمام في الآداب العامة ودور الأهل والنظافة والأخلاق الذي قلّما نجده حالياً في الروايات – وفي رأيي الشخصي أن ذلك يعود كون الكاتبة إينيد بلايتون كانت مهتمة في دعم الرواية الأخلاقية خاصة أن توجهاتها كانت نحو فئة عمرية معينة – وهذا بالتالي جعلها الرائدة في فن القصص للأولاد حيث مؤلفاتها كانت وما تزال الأهم في هذا المجال.
القصة ليست للجيب.. قياس القصة أكبر من حجم الألغاز وأصغر من الكتاب. خلال 210 صفحات (أو أكثر – حسب الطبعة ودار النشر) قدمت بلايتون روايتها البوليسية في بساطة ويسر.. ولكن قد لا تنهي من قراءتها في جلسة واحدة.
نلاحظ عند قراءتها أنها تهتم بالتفاصيل وأنها منظمة جداً ولا تغفل غافلة.

2- العدد العربي المترجم – مكتبة جرير:
حافظت هذه الترجمة الحرفية على نص بلايتون كما هو بدون زيادة ونقصان. حتى الأسماء بقوا كما هم دون تعريب.
حالة الترجمة جيدة جداً وهي موجهة للذين يستمتعون بقراءة هذا النوع من القصص المترجمة كروايات أجاتا كريستي وروايات عبير.
الرواية تُرجمت في 225 صفحة وهذا يدل أن مستوى اللغة لم يكن بليغاً جداً، بل هو مبسّط كون الكتاب لفئة عمرية صغيرة في العمر – فمن المعروف أن اللغة العربية من أكثر اللغات بلاغة والبلاغة يترتب عنها الإيجاز في المضمون بإستعمال الكلمة الصحيحة مهما بلغت صعوبتها.. بعض الكتب تُرجمت بحرفية تامة وإجادة مثل (المآسي الكبرى) الذي يتناول 4 مسرحيات درامية لشكسبير ولكن حينها كان المترجم نفسه أديباً.

3- لغز الكوخ المحترق – محمود سالم:
لقد عرّب أو بالأحرى "مصرن" الكاتب محمود سالم القصة الإنكليزية وخلق عالماً موازياً بعد حوالي 30 عاماً من ولادة العالم الذي خلقته إينيد بلايتون. وفي طريقه للتعريب جرى على بعض التغيرات الهامة. فمن لاري ودايزي وبيب وبيتس وفريدريك إلى محب ونوسة وعاطف ولوزة وتوفيق. ومن العالم الخيالي "بيترسوود" في إنكلترا إلى عالم حقيقي هذه المرة وتحديداً : المعادي – محافظة الجيزة – الجمهورية المصرية العربية!
اللغز ينقل لنا صورة مصرية جميلة عن فترة الستينات في مصر التي بحكم تعرضها للحكم الإنكليزي في مراحل سابقة تركت الكثير من القواسم المشتركة بينهم وبين الإنكليز. ومع هذا، ففي هذا التعريب فقدت الرواية روحها الأصلية لتتبنى روحاً جديدة لا تقل روائعية عن سابقتها بل قد تكون أجمل وأوضح. ربما ما ساعد على جعلها ذات صدى مؤثر ومحبب لنا كونها باتت تجربة عربية بحتة – وفي هذا تفريغ طويل من مخزون الطرح الفكري الأجنبي بإعتباره دخيلاً على عروبتنا مهما حاولنا إيهام أنفسنا بالتأقلم معه أو بالتسليم بوجوده.
رغم صعوبة النقلة، عالج الكاتب محمود سالم على طريقته الخاصة الموضوع بدهاء شديد. الفكرة كانت في طرح موضوعاً بوليسياً في جو يسمح للأولاد أن يكونوا فيه طرفاً. فأتى اللغز منصبّاً على محور القصة وعلى أشخاص القصة من دون الغور كثيراً في الوصف والإغراق في التفاصيل التي لا تخدم الحبكة. وفي هذا تألق أسلوب محمود سالم حيث أنه أبعد ولم يستثني الأهل ولكنه جعل من أبطاله أبطالاً حقيقيين (وإن كان هذا سيتجلى أكثر في ما بعد).
القصة قصيرة نوعاً ما .. فهي من الحجم الصغير وقد سُردت في حوالي 92 صفحة، ممّا يلقي الضوء على الإختزالات والإختصارات التي قام بها الكاتب حتى تتأتى الرواية وكأنها مصرية محض. رغم الإجتزاء والإقتصاص، لم يبتعد الكاتب عن فحوى القصة ومضمونها الفريد؛ فقد حافظ على الخطوط الرئيسية للحبكة وعلى أشخاصها كما رسمتهم الكاتبة الأصلية.
أجد من الضروري هنا أن أقرّ بأن الألغاز المعرّبة اختلفت بمستواها عن الألغاز التي اخترعها خيال الكاتب الفنان محمود سالم – وفي هذا دليل على أمانة الكاتب الشخصية في الإلتزام بالإقتباس وفق معاييره الخاصة. وقد رأى الكثر أن تلك الألغاز المعرّبة أقل جودة من باقي السلسلة ولكنني شخصياً لا أوافقهم الرأي بتاتاً. بالنسبة لي، الكتابة تمرّ بمراحلة تشبه مراحل الإنسان فهي تولد وتنمو وتنضج ومن ثم يصيبها العجز أو الخرف أو البلادة وهذا بالظبط ما أصاب سلسلة المغامرون الخمسة من بدايتها للعدد الأخير بقلم ابن سلووووم!!

4- إحتراق المكتبة – بساط الريح
إنهم جلال وسعاد ووحيد وشهيرة وعماد والكلب سامبو. والقصة تدور في مكان ما، والكاتب مجهول!
العدد محبط ومحطّم للآمال.. خاصة للذي قرأ العدد بلغته الأصلية أو العدد المترجم أو حتى عدد محمود سالم. لقد حوّل الكاتب المجهول المغامرون الخمسة والكلب سامبو إلى مجموعة ساذجة جداً. مع أن القصة هي هي والحبكة هي هي ولكنها الوصلات التي تخلق الروح للشيء المكتوب.
العالم الذي خُلق هنا بقي مجهولاً ككاتبه.
لم تكن هناك حتى مساعٍ إلى "لبننة" اللغز كما فعل الكاتب محمود سالم. لربما لو سعى الكاتب إلى ذلك لتحددت لرؤيا أكثر وباتت ذات أقاليم ومعالم متباينة و... ذات هوية!