Friday, September 15, 2017

ّ~ عن الترجمة .. وأشياء أخرى ~


تعتبر الترجمة فنّاً عريقاً وذات تأثير بالغ في إيصال الكلمة مع روح الكاتب. ويحصل إن كانت الترجمة رديئة بأن يفقد الكتاب جزءاً هاماً من مضمونه. لكن من النادر جداً أن تكون الترجمة والتصرف في العمل أجمل بكثير من العمل الأصلي نفسه.

في الصورة نموذج بسيط عن ما أقصده. هو العدد الأول من سلاسل عدّة: لغز الكوخ المحترق.
من اليمين إلى اليسار: العدد الأصلي بقلم إينيد بلايتون (الكاتبة الإنكليزية الذائعة الصيت – كتبته حوالي عام 1943) – العدد نفسه مترجم للعربية من تراجم مكتبة جرير السعودية عام 2007 – العدد الأوّل من سلسلة المغامرون الخمسة من دار المعارف المصرية ضمن سلسلة قصص بوليسية للأولاد – بقلم الكاتب المصري محمود سالم – كتبه في أواخر الستينات تقريباً – العدد الأوّل من سلسلة المغامرون الخمسة "اللبنانيون" من دار بساط الريح اللبنانية لكاتب مجهول الهوية.

1- العدد الإنكليزي – إينيد بلايتون:
لاري ودايزي دايكن وبيب وبيتس هيلتون يتعرفان على فريدريك ألجرنون تروتوفيل وكلبه بستر ليكونان فرقة لحلّ لغز الكوخ المحترق.
الرواية أنيقة جداً .. نحن نتحدث عن أوائل الأربيعينات حيث حينها كانت اللغة الإنكليزية ما تزال راقية والعادات والتقاليد و"الأتيكيت" الذي بتنا نراه فقط في أفلام الأسود والأبيض موجود.
مع إن الكاتبة أقرّت منذ البداية أنها قد اخترعت المدينة التي يعيش فيها المغامرين إلاّ أنها سرحت كثيراً في وصف الطبيعة حولهما.
هناك إهتمام في الآداب العامة ودور الأهل والنظافة والأخلاق الذي قلّما نجده حالياً في الروايات – وفي رأيي الشخصي أن ذلك يعود كون الكاتبة إينيد بلايتون كانت مهتمة في دعم الرواية الأخلاقية خاصة أن توجهاتها كانت نحو فئة عمرية معينة – وهذا بالتالي جعلها الرائدة في فن القصص للأولاد حيث مؤلفاتها كانت وما تزال الأهم في هذا المجال.
القصة ليست للجيب.. قياس القصة أكبر من حجم الألغاز وأصغر من الكتاب. خلال 210 صفحات (أو أكثر – حسب الطبعة ودار النشر) قدمت بلايتون روايتها البوليسية في بساطة ويسر.. ولكن قد لا تنهي من قراءتها في جلسة واحدة.
نلاحظ عند قراءتها أنها تهتم بالتفاصيل وأنها منظمة جداً ولا تغفل غافلة.

2- العدد العربي المترجم – مكتبة جرير:
حافظت هذه الترجمة الحرفية على نص بلايتون كما هو بدون زيادة ونقصان. حتى الأسماء بقوا كما هم دون تعريب.
حالة الترجمة جيدة جداً وهي موجهة للذين يستمتعون بقراءة هذا النوع من القصص المترجمة كروايات أجاتا كريستي وروايات عبير.
الرواية تُرجمت في 225 صفحة وهذا يدل أن مستوى اللغة لم يكن بليغاً جداً، بل هو مبسّط كون الكتاب لفئة عمرية صغيرة في العمر – فمن المعروف أن اللغة العربية من أكثر اللغات بلاغة والبلاغة يترتب عنها الإيجاز في المضمون بإستعمال الكلمة الصحيحة مهما بلغت صعوبتها.. بعض الكتب تُرجمت بحرفية تامة وإجادة مثل (المآسي الكبرى) الذي يتناول 4 مسرحيات درامية لشكسبير ولكن حينها كان المترجم نفسه أديباً.

3- لغز الكوخ المحترق – محمود سالم:
لقد عرّب أو بالأحرى "مصرن" الكاتب محمود سالم القصة الإنكليزية وخلق عالماً موازياً بعد حوالي 30 عاماً من ولادة العالم الذي خلقته إينيد بلايتون. وفي طريقه للتعريب جرى على بعض التغيرات الهامة. فمن لاري ودايزي وبيب وبيتس وفريدريك إلى محب ونوسة وعاطف ولوزة وتوفيق. ومن العالم الخيالي "بيترسوود" في إنكلترا إلى عالم حقيقي هذه المرة وتحديداً : المعادي – محافظة الجيزة – الجمهورية المصرية العربية!
اللغز ينقل لنا صورة مصرية جميلة عن فترة الستينات في مصر التي بحكم تعرضها للحكم الإنكليزي في مراحل سابقة تركت الكثير من القواسم المشتركة بينهم وبين الإنكليز. ومع هذا، ففي هذا التعريب فقدت الرواية روحها الأصلية لتتبنى روحاً جديدة لا تقل روائعية عن سابقتها بل قد تكون أجمل وأوضح. ربما ما ساعد على جعلها ذات صدى مؤثر ومحبب لنا كونها باتت تجربة عربية بحتة – وفي هذا تفريغ طويل من مخزون الطرح الفكري الأجنبي بإعتباره دخيلاً على عروبتنا مهما حاولنا إيهام أنفسنا بالتأقلم معه أو بالتسليم بوجوده.
رغم صعوبة النقلة، عالج الكاتب محمود سالم على طريقته الخاصة الموضوع بدهاء شديد. الفكرة كانت في طرح موضوعاً بوليسياً في جو يسمح للأولاد أن يكونوا فيه طرفاً. فأتى اللغز منصبّاً على محور القصة وعلى أشخاص القصة من دون الغور كثيراً في الوصف والإغراق في التفاصيل التي لا تخدم الحبكة. وفي هذا تألق أسلوب محمود سالم حيث أنه أبعد ولم يستثني الأهل ولكنه جعل من أبطاله أبطالاً حقيقيين (وإن كان هذا سيتجلى أكثر في ما بعد).
القصة قصيرة نوعاً ما .. فهي من الحجم الصغير وقد سُردت في حوالي 92 صفحة، ممّا يلقي الضوء على الإختزالات والإختصارات التي قام بها الكاتب حتى تتأتى الرواية وكأنها مصرية محض. رغم الإجتزاء والإقتصاص، لم يبتعد الكاتب عن فحوى القصة ومضمونها الفريد؛ فقد حافظ على الخطوط الرئيسية للحبكة وعلى أشخاصها كما رسمتهم الكاتبة الأصلية.
أجد من الضروري هنا أن أقرّ بأن الألغاز المعرّبة اختلفت بمستواها عن الألغاز التي اخترعها خيال الكاتب الفنان محمود سالم – وفي هذا دليل على أمانة الكاتب الشخصية في الإلتزام بالإقتباس وفق معاييره الخاصة. وقد رأى الكثر أن تلك الألغاز المعرّبة أقل جودة من باقي السلسلة ولكنني شخصياً لا أوافقهم الرأي بتاتاً. بالنسبة لي، الكتابة تمرّ بمراحلة تشبه مراحل الإنسان فهي تولد وتنمو وتنضج ومن ثم يصيبها العجز أو الخرف أو البلادة وهذا بالظبط ما أصاب سلسلة المغامرون الخمسة من بدايتها للعدد الأخير بقلم ابن سلووووم!!

4- إحتراق المكتبة – بساط الريح
إنهم جلال وسعاد ووحيد وشهيرة وعماد والكلب سامبو. والقصة تدور في مكان ما، والكاتب مجهول!
العدد محبط ومحطّم للآمال.. خاصة للذي قرأ العدد بلغته الأصلية أو العدد المترجم أو حتى عدد محمود سالم. لقد حوّل الكاتب المجهول المغامرون الخمسة والكلب سامبو إلى مجموعة ساذجة جداً. مع أن القصة هي هي والحبكة هي هي ولكنها الوصلات التي تخلق الروح للشيء المكتوب.
العالم الذي خُلق هنا بقي مجهولاً ككاتبه.
لم تكن هناك حتى مساعٍ إلى "لبننة" اللغز كما فعل الكاتب محمود سالم. لربما لو سعى الكاتب إلى ذلك لتحددت لرؤيا أكثر وباتت ذات أقاليم ومعالم متباينة و... ذات هوية!


1 comment:

Muaad Elsharif said...

مقالة جميلة يا جاد
هل تعلم أين أجد أعدادا من السلسة اللبنانية مجهولة الكاتب؟
هناك عدد ينقصني